لم يكن انطلاق ثورة ال(14)من أكتوبر 1963م مجرد حدثاً عابراً في تاريخ الجنوب العربي،بل سبقه ارهاصات ومخاضات عديدة في كل انحاء الجنوب،من المهرة شرقاً حتى باب المندب غرباً ،حيث اندلعت عدة انتفاضات فلاحية متتالية في عدة مناطق من الجنوب وفي فترات زمنية مختلفة، رافق ذلك العديد من التمردات القبلية في المناطق الجبلية والعصيان المدني والمظاهرات والاضرابات العمالية في عدن والحوطة المحروسةوبعض المناطق المجاورة الاخرى،وكانت بداية تلك الارهاصات والمخاضات منذ مابعد انتصار الثورة الناصرية في مصر في يوليو1952م وزادت وتيرتها بعد العدوان الثلاثي على مصر في اكتوبر 1956م،وماتلا ذلك واستمرت لعدة سنوات ،وكان اخر تلك التمردات القبلية،تمرد قبائل ردفان على السلطات البريطانية بقيادة الشيخ غالب بن راجح لبوزة في مطلع شهر أكتوبر1963م ،فسارعت الجبهة القومية لتبني وتوظيف هذا الحدث الهام بشكل سريع وملفت للانتباه،بالرغم من ان الاعلان عن تشكيل الجبهة القومية لتحرير الجنوب المحتل، لم يمر عليه الا بضعة اسابيع فقط، حيث اعلنت قيادة الجبهة القومية عن تأييدها ودعمها لتمرد قبائل ردفان ،وكان لهذا التبني المبكر نتائجه الايجابية،كان اهمها انظمام العديد من قيادات التمرد القبلي في ردفان الى صفوف الجبهة القومية ،وتم دعم قيادات التمرد في ردفان من قبل الجبهة القومية ببعض العناصر الذين تلقوا بعض التدريبات العسكرية على الاسلحة الخفيفة والمتوسطة خارج الجنوب والتي نزحت او تم نفيها قسراً من قبل سلطات الاحتلال البريطاني في فترات زمنية مختلفة اثناء اشتعال تلك الانتفاضات،لتسفر كل تلك الجهود على اشعال اول شرارات الثورة الاكتوبرية من جبال ردفان الشماء وسط تأييد ومباركة من قبل اهالي المنطقة ومن قبل اخوانهم في المناطق المجاورة،حيث هب الجميع من مختلف انحاء الجنوب للقتال الى جانب اخوانهم في ردفان الثورة، التي حضيت بإجماع شعبي كبير في المدينة والريف ،حيث شاركت فيها كل فئات شعب الجنوب،من مثقفين وعمال وفلاحين بما فيهم بعض المشائخ والامراء والسلاطين الذين تمردوا على سلطات الاحتلال البريطاني ،وتم تدمير منازلهم وطردهم الى خارج حدود الدولة الجنوبية ،وكان الهدف الاساسي لهذه الثورة ،هو اخراج الاحتلال البريطاني من ارض الجنوب العربي ليحكمه ابنائه،وليس استبدال احتلال بإحتلال اخر،ونجح شعب الجنوب في تحقيق هذا الهدف بفضل تكاتف ابنائه وبإمتياز ،لكن الاخطاء التي حصلت بعد انتصار الثورة ،كانت جسيمةً وفادحةً،ولو كانت تلك الاخطاء التي حدثت مثلها ،مثل كل الاخطاء التي مرت بها معظم الثورات في المنطقة العربية وخارجها ،لما كتبنا كلمة واحدةً عن كل تلك الاخطاء الكارثية التي حصلت في الجنوب بعد نجاح ثورته الباسلة والتي كانت السبب الاساسي والرئيسي في ضياع الدولة الجنوبية المستقلة ومحوها من على الخريطة ،ومحو هوية شعبها والاستيطان فيها والسيطرة على كل اراضيها وثرواتها . لقد رافق العديد من الثورات الاوروبية ابتداء بالثورة الفرنسية والثورة البلشفية في روسيا ،وبعض الثورات في المنطقة العربية ،ابتداءاً بالثورة العراقية والثورة السورية ،مروراً بالثورة المصرية والجزائرية والليبية ،وغيرها من الثورات،الكثير من الاخطاء والتقلبات بعد نجاحها ،تم اصلاح البعض منها والبعض الاخر لازال مستمر في اصلاح ماافرزته تلك الثورات ،بين مرحلة واخرى ،ورغم جسامة بعض تلك الاخطاء التي رافقت كل تلك الثورات ،الا انها حافظت على اوطانها وعلى قطريتها وعلى هوية شعوبها ،وعلئ استقلالها كدول،وتركت الباب مفتوحاً للاجيال القادمة ،لكي تستمر في الاصلاح والتقدم والرقي بمستوى تلك الشعوب ،ولم يحصل لتلك البلدان والشعوب ،مثلما حصل للدولة الجنوبية المستقلة ولشعب الجنوب من كوارث التصفية والضياع من هنا نقول ان انهاء الدولة الجنوبية المستقلة ،ومحوها من على الخريطة ،ومحو هوية شعبها لم يكن من اخطاء الثورة ابداً،ولم تكن تلك الصراعات ودورات العنف المختلفة التي مر بها الجنوب ومارافقها من تصفيات جسدية لخيرة القيادات والكوادر الجنوبية في مختلف المجالات ،طيلة العقدين التي سبقت ،،وحدة الظم والالحاق،، لم تكن اقتتالاً اهلياً بين ابناء الجنوب،او صراعاً طبقياً وايدلوجياً،كما صوره مفكري ومخططي مشروع الظم والالحاق في تلك الفترة لعامة الناس في الجنوب ،عبر وسائلهم الاعلامية المختلفة ،والبسوه كل تلك المسميات المختلفة وبما يتناسب وطبيعة المرحلة ،بل كان صراعاً بين من نزحوا من ابناء الجمهورية العربية اليمنية الى عدن وبعض المناطق المجاورة لها هرباً من ظلم الامامة ومن جحيم الحرب المشتعلة بين الملكيين والجمهوريين ،منذ نهاية الخمسينات ومطلع ستينيات القرن الماضي وماتلا ذلك ،وبين ابناء الجنوب وقياداتهم الشابة ،الرافضة لمحو الهوية الجنوبيةو لذلك الظم والالحاق،حيث اصبحت اتفاقية الاستقلال التي تم التوقيع عليها في جنيف يوم 29نوفمبر1967م بمثابة بيان دستوري للدولة المستقلة،ولم يتم الاتفاق على اصدار اول دستور للبلاد الا بعد ثلاث سنوات كاملة بسبب الخلاف على هوية الدولة الوليدة التي تم تغيير هويتها في اتفاقية جنيف ،ولم يتم اصدار اول دستور للبلاد إلا في نوفمبر1970م،بعدما تم ازاحة الرئيس قحطان محمد الشعبي من رئاسة الدولة وفيصل عبداللطيف الشعبي من رئاسة الحكومة،وطابور طويل من قيادات الصف الاول في الجبهة القومية وتصفية واقصاء اهم الكوادر المتنورة في كل اجهزة الدولة المدنية والعسكرية بغض النظر عن انتمائاتها السياسية والتي كانت مواقفها متباينة او رافضةً لتثبيت الهوية اليمنية في وثيقة اول دستور للبلاد،ولمجمل تلك السياسات والتدابير التي اتخذت بعد يونيو1969م، وهذا هو جوهر المشكلة والتشخيص الحقيقي لها ،ولولا تلك الاحداث والتصفيات الجسدية التي استهدفت القيادات الجنوبية فقط منذ الاستقلال عن بريطانيا في ال(30) من نوفمبر1967م وحتى (22) مايو1990م ،لما تم ظم والحاق الجنوب الى الجمهورية العربية اليمنية،فالظم والالحاق ،كان نتيجة لمحو الهوية الجنوبية،واحلال الهوية اليمنية بديلاً لها، وليس العكس ،ولن تزول هذه النتيجة الا بزوال السبب اولاً،لذلك فإن معاناة شعب الجنوب لم ولن تنتهي ابدا،الا بإستعادة دولته الجنوبية المستقلة ،دون ذلك فلامعنى لاي اصلاحات او محاربة فساد او ماشابه ذلك،فكل ذلك يهدف لاطالة عمر الاحتلال وتمييع القضية الجنوبية،وعلى ابناء الجنوب جميعاً وفي مقدمتهم جيل الشباب معرفة كل تفاصيل تلك المرحلة وكيف ضاعت بلادهم؟ وفهمها واستيعابها بشكلها الصحيح ،اذا ما ارادو اختصار الطريق لإستعادت دولتهم المستقلة. ان من يحمل قضية شعب الجنوب على عاتقة اليوم ،عليه ان يكون متسلحاً بالخلفية التاريخية لهذا الصراع ،وان تكون كل تلك الارواح التي ازهقت والدماء التي سالت ،وكل تلك التضحيات وكل تلك المعاناة التي عاناها شعب الجنوب منذ يونيو1969م وحتى يومنا هذا ،ماثلةً نصب عينيه،وان يعي ويفهم ،ان سبب معانات شعب الجنوب هو عدم الالمام والفهم لجوهر وحقيقة الصراع وخلفياته التاريخية ، والتفرد بالقرار دون الرجوع لبقية القوى السياسية والشخصيات الاجتماعية ونخب المجتمع من كتاب ومثقفين ورجال مال واعمال وغيرهم من النخب التي تمثل شعب الجنوب تمثيلاً حقيقياً،ومن خلفهم شعب الجنوب نفسه ،فهو صاحب القرار اولاً واخيراً. ان سوء الاختيار للعديد من القيادات والتفرد بالقرار من المشاكل الاساسية التي عانينا منها في الماضي كثيراً ولازلنا نعاني منها حتى يومنا هذا. وبمناسبة الذكرى ال(60)لثورة ال(14)من اكتوبر المجيدة ،فإننا ندعوا كل النخب السياسية التي تتصدر المشهد السياسي الجنوبي اليوم بالاستفادة من كل اخطاء الماضي واخذ الدروس والعبر منها،وعدم تكرارها وعدم ادخال شعب الجنوب في تجربة جديدة ويكفيه ما دفع من ثمن باهض من جراء تلك التجارب السابقة،كما ندعوا ابناء الجنوب جميعاً وبمختلف مشاربهم ،ان يرفعوا اصواتهم وان يقفوا وقفة جادة ضد كل من يتجاهل كل تلك الدماء الجنوبية التي سالت منذ ستينيات القرن الماضي ،وتلك الارواح التي ازهقت والدماء التي سالت اثناء التصدي لهولاء الغزاة والمستوطنين في حرب صيف1994م ،وماتلا ذلك من قتل وبطش بشعب الجنوب منذ انطلاقة الحراك الجنوبي ،وان يلجموا تلك الاصوات النشاز التي تدعوا للمصالحة مع القوى السياسة والعسكرية والقبلية اليمنية التي غزت الجنوب في صيف 1994م ،ومن يقدم على ذلك فهو يرتكب خطيئة جديدة بحق شعب الجنوب ،ويشرعن لهولاء الغزاة كل ماارتكبوه من جرائم قتل وسلب ونهب لممتلكات الجنوبيين ،التي اخذت منهم بالقوة العسكرية القهرية وبدون وجه حق،ولم يتركوا طريقاً اخر امام شعب الجنوب لاستعادة حقوقه وممتلكاته ،الا باستعادة كيانه المتمثل بالدولة الجنوبية المستقلة ،وهذا ماخرج من اجله شعب الجنوب في ثورته الثانية.