ربما كان عمر جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية كنظام سياسي قصيراً، بالمقارنة مع ما يتطلبه عمر دولة وطنية بهوية وطنية متكاملة الأركان والشروط، لكننا نستطيع القول إنه وخلال تلك الفترة القصيرة كان مجرد شعور أي مواطن جنوبي بالانتماء إلى هذا البلد مصدر فخر واعتزاز وهو يعبر الحدود والمطارات، رغم نفور بعض الأنظمة الشقيقة وغير الشقيقة من اسم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ونظامها السياسي، بفعل الصراعات السياسية والأيديولوجية، ومؤثرات الحرب الباردة ونزاعات القطبين الدوليين المهيمنين على العالم.
وإذا ما أخذنا تلك المعايير الأكاديمية الصرفة التي تحدثنا عنها سلفاً فإنه بإمكاننا الإشارة إلى حضور تلك المتطالبات الأساسية للهوية الواحدة، سواء ما يتعلق منها بالموقع الجغرافي الواحد، أو الذاكرة التاريخيّة الوطنية المشتركة، أو الثقافة الشعبيّة المتقاربة والموحّدة أو شبكة الحقوقٌ والواجباتٌ المشتركة المرتبطة بالقانون العام أو تلك التي تنشأ في إطار العلاقات الاجتماعية العفوية بين الناس، كما كان وجود الحياة الااقتصادية والمعيشية المشتركة قد مثل مصدراً لوحدة المصالح المادية المتناسقة مع وحدة المصالح المعنوية التي تشملها منظومة الثقافة الشعبية والقوانين والتشريعات الوطنية.
إن هذه المقومات نشأت ونمت واتسعت وتعمقت في حياة المواطنين الجنوبيين، عبر عقود من الزمن، وكان قيام الدولة الجنوبية لحظةً حاسمةً في ثبات وصيرورة هذه المتفاعلات التي غدت تمثل المداميك الأساسية للهوية الجنوبية التي يتحدث عنها الجنوبيون اليوم وهم ينافحون عن حقهم في استعادة دولتهم وبناء كيانهم الوطني المستقل الجديد المعبر عن آمالهم وتطلعاتهم وعلى أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم.
وقبل الخروج من هذا الفصل وتعميماً لكل ما قيل أعلاه لا بد من التعرض لعدد من التأكيدات المهمة ذات الصلة الجوهرية بعملية نشوء وتطور الهوية الجنوبية وما ترافق معها من صور وأشكال لتمظهرات موازية تتعلق بالهوية الجنوبية كمعبر عن الانتماء الوطني لكل أبناء الجنوب إلى أرضهم وشعبهم ويمكن تلخيص هذه التأكيدات في الحقائق التالية:
1. إن الهوية الجنوبية لم تنشأ بمرسوم إداري أو قرار سياسي كما أن نشوءها لم يتم بين عشية وضحاها ولم ينجز بعصا سحرية بل إنه جاء نتيجة طبيعية لتفاعل جملة من التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية التي استغرقت عقوداً من الزمن، جرت الإشارة إليها في سياق هذا الفصل.
2. إن نشوء وتطور الهوية الجنوبية لم يسر في خط مستقيم وعلى طريق ناعم خالٍ من المسالك الشائكة والعوائق المثبطة بل لقد نشأت هذه الهوية وتنامت في أتون معتركات صعبة على طريق طويلٍ ومتعرج ومسالكَ معقدة نسبياً لكنها تمخضت عن تلك الولادة الحية والمعافاة.
3. إن الهوية الجنوبية لم تمثل إلغاءً للهويات البينية التي تشكلت منها أو بنيت على اندماجها ببعضها، بل لقد احتفظ أصحاب تلك الهويات بالكثير من مميزات مناطقهم وموروثاتهم الثقافية وذاكرتهم التاريخية، ولو تذكرنا احتفال أبناء حضرموت بيوم الشهداء السبعة، ومظاهر اللهجة السقطرية والمهرية، والتمايزات المعمارية في شبوة وأبين ويافع، وأغاني الصيادين في راس العارة وشقرة والشحر ونشطون وما يترافق معها من عادات وتقاليد تميز بين هذه المناطق كما تميز كلاً منها عن سواها لاكتشفنا ما تتمايز به الذاكرة التاريخية والثقافة الشعبية لهذه المناطق مع بعضها وذلك الطيف الجميل في تكوين الثقافة الشعبية الجنوبية، ولرأينا أن هذا التمايز وتعدد ألوان قوس قزح الثقافية والشعبية بين مناطق الجنوب لم يكن إلا عنصراً من عناصر إغناء هذه الثقافة الشعبية الجنوبية الأم ومن ثم عنصر إثراء للهوية الجنوبية لا سبباً من أسباب تنافر مكوناتها أو التهام بعضها بعضاً.
4. ومع ذلك وبسبب التفاعل الجدلي الموضوعي بين العمليات التاريخية السياسية والاقتصادية وبين ما يرافقها من عمليات وتداعيات ثقافية ومعنوية موضوعية فإن ما شهدته مرحلة بناء الدولة الجنوبية من شطحات (ثورية) وخطوات إرادوية (مزاجية) ومحاولات لـ”حرق المراحل”، وتطبيق إجراءات وسياسات غير مدروسة بشكل كافي، كل هذا قد خلق انعكاسات سلبية في صيرورة عملية التحول نفسها، مما أبطأ من عملية النمو الاقتصادي والاجتماعي، وألحقَ تشويهات ضارة بالوعي الوطني، أثرت سلباً في عملية ترسخ الهوية الوطنية الجنوبية لكنه لم يلغِها أو يحول دون ديمومتها وحيويتها.
5. إن بعض المكونات الماضوية ذات القيمة السالبة القادمة من تلك الهويات ما قبل الدولة الجنوبية، لم تضمحل ولم تمت بصورة نهائية، بل بقيت كامنة في الزوايا الخفية للوعي الاجتماعي العفوي، لكنها بقيت قابلة للانتعاش في أي لحظة موائمة، وهذا ما جرى في بعض فترات الصراعات الداخلية بين الأقطاب السياسية في إطار القيادة الجنوبية الواحدة، وقد كان لهذا تأثيراً سلبياً على سرعة تنامي وحضور الهوية الجنوبية الواحدة، ووجدت في الصراعات الجنوبية-الجنوبية تعبيرا ًمكثفاً عنها، بيد أن هذا التأثير لم يؤدِ إلى اضمحلال الهوية الجنوبية أو ضمورها وهذا ما تأكد عند ما كانت الهوية الجنوبية معرضة لخطر الاقتلاع بعد غزو أرض الجنوب واحتلالها في العام 1994م وما بعده.
هذه الظواهر إنما كانت تعبر عن عدم اكتمال عملية الاندماج بين أصحاب الهوية الجنوبية الجديدة أو بعبارة أخرى إن الطريق الذي مر به نشوء وتطور ونمو الهوية الجنوبية لم يكن سلساً ولا وردياً، وإن العناصر السلبية في مكونات الهويات السابقة قد مكثت أو ترسبت في مخابئ قصية من الذاكرة الشعبية، ولم تغادر نهائياً، وبقيت لتعبر عن نفسها في اللحظات الحرجة من تاريخ التجربة الجنوبية، ومع كل ذلك فإن ظهورها في لحظات معينة من تاريخ التجربة الجنوبية، لم يؤدِّ إلى ما تمناه أعداء الجنوب وقضية الجنوب في تصفية ومسخ تلك الهوية.
6. ومن المهم الإشارة إلى إنه قد جرى استدعاء تلك الترسبات في الوعي الجمعي الشعبي ليستخدمه الوافدون ما بعد 7/7 في سبيل تفكيك اللحمة الوطنية الجنوبية وإنعاش هويات ما قبل الدولة في الكثير من المناطق الجنوبية من خلال محاولات إحياء العلاقات العدائية القائمة على نزاعات الثأر والحروب القبلية والجهوية، وإعادة البلد إلى أزمنة ما قبل الدولة من خلال تنشيط الواجهات التقليدية البديلة للدولة الحديثة، وقد أفلحوا أحيانا لكنهم أخفقوا في معظم الأحيان.
7. وبما إن الهوية ظاهرة تاريخية تولد وتنشأ وتنمو وتشيخ وقد تصغر أو تكبر وقد تشهد اتساعاً أو انكماشاً، فإن كل هذه الطبائع تنطبق على الهوية الجنوبية في كل المراحل التاريخية التي مرت بها منذ البزوغ والتنامي، فالنشوء والاتساع، وحتى لحظات محاولة الطمس والمسخ، حيث إنها لم تعرف استقراراً، وبالتالي لا يمكن الحديث عن معطىً جاهزٍ في حالة واحدة من التوقف والثبات والاستقرار، بل لقد ظلت في حالة من الحركة والصيرورة والتغير تبعاً للظروف التاريخية والملابسات الاقتصادية – الاجتماعية والسياسية ومن هنا فإنه لا يمكن الحديث عن هوية جنوبية جاهزة وثابتة إلى الأبد.
8. ولعل من أعجب وأطرف ما شهده تاريخ الهوية الجنوبية هو إن ذلك التصاعد والتنامي المذهل والمثير للدهشة في التعبير عنها والتعلق العجيب بها قد تجلى في مرحلة الانتكاسة والهزيمة التي تعرض لها الجنوب بعد حرب 1994م حيث تصاعد التعبير عن التمسك بتلك الهوية في أزهى لحظات المقاومة السلمية الجنوبية، وهو ما سنتوقف عنده في مكان آخر من هذه الدراسة. لقد ظل الجنوبيون طوال فترة ما قبل 1990 يقدمون أنفسهم كيمنيين في جميع المحافل الإقليمية والدولية وفي كل المناسبات الرسمية وغير الرسمية ، كما في الملتقيات الاعتيادية الشعبية، ولهذا مبرراته المرتبطة بحب الوطن والتاريخ والإنسان وبما أسميناه بـ”الإرادوية” والاندفاع العاطفي وثقافة “حرق المراحل” التي رافقت مرحلة المد القومي العروبي، وتحويل التمنيات إلى شعارات ظل الكثيرون من حملتها يعضون عليها بالنواجذ، لكن عند ما تكشفت الحقيقة بعيد العام 1990م وبالذات بعد 1994م اكتشف الجنوبيون أن حلم “الهوية اليمنية الواحدة” كان مجرد شعارٍ سياسيٍ عابرٍ، وفي أحسن الأحوال أمنية طيبة ونبيلة لم تتوفر لها مقومات جاهزة أو حتى قابلة للولادة والاستنبات على أرض الواقع بل لقد تحول هذا الشعار النبيل لدى الجنوبيين إلى أداة من أدوات محاولة مسخ واقتلاع لهويتهم الأصلية وعامل من عوامل إكراههم على تقبل هوية ليست بالضبط الهوية التي حلموا بها، وهي هوية لا توجد أصلاً في سياق الحياة اليومية حتى لأصحابها، وهذا ما سنتناوله في موقعٍ آخر من هذه الدراسة.