الانتفاضة الفلاحية في أوروبا: بين الصراعات الاقتصادية وتحديات النظام العالمي الجديد
كتب م/ مقبل ناجي مسعد
لازالت انتفاضة المزارعين في اوروبا مستمرة رغم القيود المفروضة على تحركات المزارعين والتعتيم الاعلامي المفروض عليها،حيث تمكن مزارعوا بلجيكا خلال الايام الماضية من اجتياز العديد من الحواجز في الطرقات الرئيسية التي تربط العاصمة بروكسل ببقية المدن الرئيسية،واجتياز حواجز الشرطة داخل العاصمة وصولاً الى ساحة البرلمان وسط العاصمة بروكسل،ومحاصرته بإكثر من(200)جراراة زراعية،احتجاجاً على سياسة الحكومة في المجال الزراعي،تأتي هذه التحركات من قبل مزارعي بلجيكا بالتزامن مع تحركات المزارعين في العديد من الدول الاوروبية،حيث كانت البداية من فرنسا،فقد انطلقت احتجاجات مزارعي فرنسا يوم الخميس: 18يناير الماضي ،اذا بدأ المئات منهم بإغلاق الطرق السريعة في جنوب غرب البلاد،وانتشرت بعد ذلك في عدة مدن فرنسية،وفي يوم الاربعاء الموافق:24يناير الماضي عمد الفلاحون الى دخول العاصمة باريس،واغلقوا الطرق الرئيسية المؤدية اليها واعلنوا(حصار باريس) حتى الاستجابة لمطالبهم ،والمتمثلة في اعادة النظر في الضريبة على وقود الجرارات، تخزين المياة،التأخير في دفع الاعانات الزراعية،معايير البيئة التي يفرضها الاتحاد الاوروبي،سياسة تسويق المنتجات الزراعية،حماية المزارعين والمنتجات الزراعية وغير ذلك من المطالب،ليعلن بعد ذلك وخلال ايام واسابيع قليلة مزارعوا ايطاليا والمانيا وبريطانيا وايرلندا واليونان وبلجيكا ،تضامنهم مع مزارعي فرنسا،حيث اجتاز الاف المزارعين بحافلاتهم وجراراتهم كل الحواجز الرئيسية بين المدن وحواجز الشرطة في عواصم تلك البلدان وصولاً الى ساحات البرلمانات في تلك الدول ومحاصرتها بمئات الجرارات في اكبر انتفاضه فلاحية تشهدها اوروبا منذ اكثر من ثمانين عام،ولازالت هذه الانتفاضة مستمرة رغم التعتيم الاعلامي المفروض عليها،وقد رافق انتفاضة مزارعي اوروبا العديد من الاضربات العمالية في عدة مدن اوروبية،حيث اعلن يوم الجمعة الموافق:02فبراير 2024م اضراب اكثر من (90)الف عامل في محطات الحافلات في المانيا،وتزامن ذلك مع اضراب عمال الامن في المطارات الالمانية،مما تسبب في الغاء(1100)رحلة جوية داخلية وخارجية.
ولم يكن انطلاق هذه الانتفاضة الفلاحية والاضرابات العمالية صدفة،بل كان امتداداً لتلك الاحتجاجات العنيفة التي شهدتها فرنسا ضد قانون اصلاح النظام التقاعدي والتي انطلقت في اكتوبر 2022م وتسببت في انقسام حاد في المجتمع الفرنسي ونخبه السياسية وفي خسائر اقتصادية كبيرة، لتشمل بعد ذلك العديد من البلدان الاوروبية،منها بريطانيا وايطاليا واسبانيا وايرلندا وبولندا والسويد وغيرها ،لتعيد الى اذهان النخب السياسيةفي اوروبا وفي فرنسا على وجه التحديد اضرابات سائقي الاجرة اوما عرف ب(اصحاب السترات الصفر) والتي كانت بداياتها الاولى في نوفمبر 2018م والتي استمرت لإكثر من عامين ،قتل خلالها المئات من المحتجين والعشرات من افراد الشرطة وتسببت بخسائر اقتصادية كبيرة،فهل ينجح مزارعوا اوروبا في انتفاضتهم الحالية ،ام ان مصيرها مصير اصحاب السترات الصفر؟!.
لاشك ان اوروبا في حالة مخاض منذ اكثر من عشر سنوات،و الاوضاع اليوم في اوروبا تختلف عما كانت عليه قبل عامين،فمنذ اندلاع الحرب بين روسيا وحلف الناتو على الارض الاوكرانية،وماانتجته العقوبات الاوروبية على روسيا ،قد ادخل اوروبا في ازمة عميقة،تضاف الى ازماتها السابقة،وادخلت
أوروبا في حالة مخاض داخلي جديد على مستوى الإتحاد الأوروبي ككل و على مستوى الدول المكونة لهذا الإتحاد،نتيجة للتبعية المفرطة للسياسة الامريكية والخضوع الكامل لها ولحلف الناتو والتي انعكست بشكل كبير على الاوضاع الداخلية لكل الدول الاوروبية،وهذا سيؤدي بالضرورة لمزيداً من الاضرابات و المظاهرات التي تزداد يوماً بعد يوم مع صعود ملفت لليمين المتطرف المصبوغ بعنصرية (النازية الجديدة) مع تراكم للازمات الداخلية لدى النخب السياسية والمالية في اوروبا والتي كشفت عن فشل النظام الرأسمالي في ثوبه الجديد الليبرالية الجديدة (New liberation) في احتوائه واحتواء وحل العديد من الأزمات الداخلية ، وبالتالي فإن مؤشرات ظهور النظام الدولي الجديد لن تكون إلا من أوروبا ومفاتيح هذا النظام تكمن في حسم الصراع في اوكرانيا وفي منطقة الشرق الأوسط ، والنمط الإقتصادي الصيني سيكون أحد أقطاب هذا النظام الجديد بكل تأكيد.
يبقى السؤال الهام والجوهري هو حيال النخبة السياسية والإقتصادية ومجمع الصناعات العسكرية والشركات الأمريكية الكبرى ومن خلفها الدولة العميقة التي تمثل هذه المصالح في البنتاجون والكونجرس ووكالة المخابرات( سي.آي.ايه) الذين أعلنوا في بداية الولاية الثانية للرئيس الديمقراطي بيل كلينتون في مطلع عام1997م وأكدها الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن وفريقه من المحافظين الجدد، بإن القرن الحالي يجب أن يكون قرناً أمريكياً، وتنفيذاً لذلك يجب قيام الشرق الأوسط الجديد الذي يمتد من الدار البيضاء في المغرب حتى كابول في أفغانستان ويكون هذا الشرق الأوسط الجديد ، منطقة مصالح ونفوذ لأمريكا دون غيرها ،فهل توصلت اليوم هذه النخب بعد مرور مايقارب العشرين عاماً وبعد كل الأحداث التي شهدتها المنطقة ، بإن ميلاد هذا الشرق الأوسط الجديد لم يعد ممكناً اليوم، وأن هناك شركاء آخرين مثل روسيا والصين والإتحاد الأوروبي لهم مصالح ويجب ان يتقاسموها هذه المصالح
مع هذه القوى؟
ان اندلاع حرب غزة وقيام تحالف(ازدهار) لحماية الملاحة الدولية في البحر الاحمر والذي تم تغطيته بالقرار الاممي(2722) والتعزيزات العسكرية الامريكية- البريطانية الكبيرة التي تم حشدها الى المنطقة ،تؤكد ان امريكا لازالت تعتبر نفسها الزعيم الاوحد لهذا العالم،ولاتريد ان تعترف او تتقبل بإن هناك شركاء لها في قيادة هذا العالم ،ولازالت ماضية قدماً في التفرد بالقرار الدولي وفرض قيام (لشرق الاوسط الجديد) بالقوة العسكرية ولاعلان عن قيام( حلف الناتو) العربي بقيادة محلية اسرائيلية تحت قيادة دولية امريكية- بريطانية،وبالتالي فإن الحرب في المنطقة
سوف تستمر حتى تحقيق هذا الهدف، وان قرار ضرب ايران قد اتخذ من اكثر من عام، على ان تكون البداية في التفرد بضرب ادواتها في المنطقة وحرب غزة هي البداية،
وبالتالي فإن النخب الأمريكية لازالت على نفس النهج المتبع منذ سقوط الإتحاد السوفيتي، والحروب سوف تستمر بإشكال متعددة في منطقة الشرق الاوسط وفي مناطق اخرى من العالم ،ابرزها جنوب شرق اسيا ،ودول اسيا الوسطى ودول القوقاز،مع محاولة توسع دائرة الصراع شرق اوروبا ليشمل مولدافيا وبولندا ومقاطعة(كالينن جراد) لاستنزاف روسيا واضعافها اقتصادياً وعسكرياً،وضرب المشروع الصيني المتمثل في طريقي الحزام والحرير واشعال مزيداً من التوتر بينها وبين تايوان،و اشعال مثل هذه النزاعات واستمرارها في العديد من المناطق،وبالذات منطقة الشرق الاوسط سيؤدي حتماً لانزلاق المنطقة الى
إلى حرب كبرى خلال هذا العام عام او العام القادم ونتيجة هذا الحرب وحرب اوكراينا هما من تحددا ميلاد هذه الأقطاب ودورها المستقبلي في إدارة شؤون العالم وتحديد شكل النظام الدولي الجديد