“معاناة لا يمكن تحملها”.. بهذه الكلمات وصفت الطالبة الجامعية “طيبة علي” الوضع الكارثي الذي تعيشه العاصمة عدن، بسبب انهيار منظومة الكهرباء وخروج محطات توليد الطاقة عن الخدمة بشكل متكرر خلال الأيام الماضية.
وتشهد عدن ومحافظات مجاورة، منذ أيام أزمة كهرباء هي الأعنف منذ سنوات، ووصلت ساعات الانطفاء فيها إلى نحو 11 ساعة مقابل ساعتي تشغيل فقط. وتأتي هذه الأزمة بسبب انعدام الوقود المشغل لمحطات التوليد الرئيسية في العاصمة. كما أن تضاعف ساعات انقطاع التيار الكهربائي يأتي في ظل اشتداد الحرارة والرطوبة.
تقول الطالبة “طيبة”: “انقطاع التيار الكهربائي يسبب معاناة كبيرة للأهالي، فهناك كبار السن الذين يعانون من أمراض مزمنة وخطيرة، وهو ما يهدد حياة الكثيرين، إلى جانب أن الانطفاءات الثقيلة سببت مشاكل للطلاب والعاملين في الكثير من الأشغال الصغيرة والمتوسطة وأصبحت مصادر دخلهم الرئيسية متوقفة”.
ظلام دامس
مصدر في مؤسسة كهرباء عدن قال إن معظم محطات التوليد خرجت عن الخدمة بسبب نفاد الوقود. موضحاً أن طاقة التوليد الحالية وصلت 140 ميجاوات، وأن محطة الرئيس “بترومسيلة” العاملة بالنفط الخام مهددة هي الأخرى بالتوقف بسبب نفاد المحروقات.
وأضاف المصدر إن العاصمة عدن، تغرق في ظلام دامس مع استمرار التوقف وخروج منظومة التوليد عن العمل، مشيرا إلى أن عودة التيار واستقراره مرهون بتموين المحطات بالوقود اللازم.
وباتت مشكلة انعدام الوقود عن محطات الكهرباء، معضلة متكررة تعيشها عدن وباقي المحافظات المحررة بشكل متكرر خصوصا في فصل الصيف الذي يشهد ارتفاعا في دراجات الحرارة والرطوبة. ودائما ما تلجأ الحكومة إلى الحلول التخديرية التي تستمر أياما قبل أن تعود الأزمة وبشكل متفاقم.
تكرار أزمة الكهرباء وتفاقمها نغصت حياة المواطنين، الذين عبروا عن استيائهم وغضبهم من التدهور الكبير للخدمات الرئيسية. وهذه الأزمة تؤثر بشكل كبير على حياتهم معنوياً وصحياً، فدرجة الحرارة تصل إلى 45 درجة مئوية، ما يجعل “التبريد والتكييف” حلا لمواجهة هذا الحر الشديد.
غياب خدمة الكهرباء لساعات طويلة، أدى إلى مضاعفة معاناة المرضى وكبار السن، فبحسب عاملي طوارئ مستشفيات حكومية، إن المرافق الصحية الحكومية والخاصة استقبلت خلال الأيام القليلة الماضية حالات كثيرة من مرضى الضغط و”الربو” الحاد، عقب تدهور حالتهم بسبب ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة نتيجة انطفاء التيار الكهربائي عن منازلهم. مشيرين إلى أن هناك حالات وفاة جرى تسجيلها بسبب الحرارة الشديدة في ظل الانطفاءات الثقيلة للكهرباء عن منازل المواطنين.
بحسب تصريحات لمسؤولي الكهرباء فإن ذروة أحمال عدن بلغت 710 ميجا وهو مؤشر مرتفع جداً مقارنة بالصيف الماضي الذي لم يتجاوز بذروته 690 ميجا، في حين أن إجمالي التوليد الحالي هو 240 ميجا يشمل 65 ميجاوات محطة الرئيس ولا تشمل محطة الحسوة 40 ميجا.
وعود متبخرة
مع انقضاء فصل الصيف من كل عام، تخرج الحكومة بتصريحات رنانة بشأن التركيز على ملف الكهرباء من أجل تفادي الأزمات والاختناقات التي تشهدها عدن، مع تأكيدات بوضع خطط واستراتيجيات وخطوات عاجلة لإيقاف تدهور الخدمة. إلا أن هذا التصريح يتبخر مع دخول فصل الصيف وعودة أزمة الوقود وتضاعف ساعات الانطفاء بشكل كبير عن الصيف الذي سبقه.
وفي 11 فبراير الماضي، عقب أيام من تعيينه في منصب رئيس الوزراء، أكد أحمد عوض بن مبارك أن حل مشكلة الكهرباء في العاصمة عدن وباقي المحافظات المحررة من أولويات الحكومة القادمة. وقال حينها أثناء لقائه مع وزير الكهرباء والطاقة، مانع بن يمين، إن حل مشكلة الكهرباء من أولويات الحكومة وتحظى بدعم كامل من مجلس القيادة الرئاسي.
وفي 17 فبراير، أصدر بن مبارك، قراراً بتشكيل لجنة مناقصات شراء وقود محطات توليد الكهرباء، برئاسة وزارة المالية وعضوية الوزارات والجهات ذات العلاقة. على أن تكون مهمة اللجنة تلقي احتياجات محطات توليد الكهرباء من الوقود المرفوعة من قبل وزارة الكهرباء والطاقة (المؤسسة العامة للكهرباء) ولجنة الإشراف والرقابة على الوقود بناءً على معدل الاستهلاك لكل محطة ونوع الوقود المطلوب وإدراجها ضمن خطة اللجنة، وإعداد المواصفات والشروط الخاصة بعملية شراء الوقود وتحديد الكميات المطلوب الإعلان عنها.
وفي 19 فبراير أعاد رئيس الحكومة خلال اجتماع عقده مع عدة وزارات معنية إحياء اتفاق توفير باخرة عائمة لتوليد الطاقة بقدرة 100 ميجاوات لتعزيز كهرباء المدينة خلال الصيف.. وتم الحديث عن توجيه دعوة إلى الشركة المتعاقد معها لتوفير الباخرة لمناقشة جوانب تنفيذ الاتفاق والعوائق القائمة، والرفع بالمقترحات اللازمة لاعتمادها.
مقترح الباخرة العائمة، هو حل وضعته اللجنة العليا للطاقة التي كان يترأسها رئيس الحكومة السابق معين عبدالملك، وتم توقيع عقد مع شركة بريزم انتربراس لاستئجار الباخرة لتوليد الطاقة الكهربائية بقدرة 100 ميجاوات بمبلغ يزيد عن 128 مليون دولار، لمواجهة صيف العام 2023، إلا أن تنفيذ الاتفاق جرى تعليقه.
لهيب الصيف الحالي أثار غضب المواطنين خصوصا وأن الوعود المقدمة تبخرت أدراج الرياح، في حين أن أزمة الكهرباء أصبحت حادّة، مع حرارة شديدة تجاوزت الأربعين درجةً مئوية، وهو ما أدخل سكان المدينة الساحلية في موت سريري.
انتظار الوعد
في 22 مايو الماضي، كشف رشاد العليمي، رئيس مجلس القيادة الرئاسي، عن استراتيجية شاملة هدفها إيجاد حلول جذرية لمشكلة الكهرباء المزمنة في البلاد. وأن هناك مسارين: الأول هو المسار الإسعافي الذي وجهنا بأن تتولاه الجهات التنفيذية المعنية من خلال حلول عاجلة لتأمين الوقود اللازم لتشغيل المنظومة الكهربائية القائمة، وزيادة قدراتها التوليدية، والاستجابة الفورية لأي طارئ.
وأضاف “أما المسار الثاني فهو مسار التوليد الكهربائي الذي يعمل عليه مجلس القيادة الرئاسي منذ عامين مع الحكومة، والسلطات المحلية لوضع استراتيجية شاملة هدفها إيجاد حلول جذرية لمشكلة الكهرباء بدعم من أشقائنا في تحالف دعم الشرعية بقيادة المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة”.
وأشار العليمي إلى أن انفراجه قريبة في الخدمة، ستأتي من استدامة إمدادات الوقود، واستكمال دخول 120 ميجا وات إلى التوليد شهر يونيو- في العاصمة عدن من محطة الطاقة المتجددة، كما تعمل الحكومة على زيادة قدرة التوليد من محطة الرئيس بعدن إلى أكثر من 200 ميجا وات بعد أن تم تجديد شبكة التوزيع المتهالكة بالكامل خلال العامين الماضيين.
فساد وعرقلة التحسين
كثيرة هي الأسباب التي تقف وراء تفاقم أزمة الكهرباء سنوياً، ولعل أبرزها بحسب ما يصفه مراقبون، سوء إدارة هذا الملف والفساد وغياب الصيانة وتردي بنية النظام الكهربائي. فحجم الطلب على الخدمة ارتفع مقارنة بحجم القدرة التوليدية للمحطات. في عدن حيث يصل الطلب إلى 700 ميغاوات سنويًا، فيما لا تتجاوز قدرة المحطات الحالية الـ500 ميغاوات. كما أن أغلب محطات توليد الكهرباء لا زالت تعمل بوقود الديزل الذي يعد الأعلى تكلفة ويستنزف 60% من الدعم المالي؛ إلى جانب خلل إدارة المشاريع الكهربائية وغياب صيانة القطاع المنهار منذ سنوات.
ويؤكد المراقبون أن الفساد المستشري في هذا القطاع وتحولّه إلى سلعة تجارية ربحية للمتنفذين تدر ملايين الدولارات. ناهيك عن عرقلة مشاريع الاستثمار والتطوير في القطاع لإنشاء محطات تستخدم الطاقة النظيفة.
الناشطة المدنية، نسرين السيد، قالت إن الحقيقة مرة ويعيشها سكان عدن كل عام مع دخول فصل الصيف. موجهة تساؤلات عدة كيف أصبحت الدولة عاجزة عن وضع حد لهذه المعاناة أو التخفيف منها، أين هي الوعود التي تقدم من أجل التخفيف من معاناة السكان، وغيرها من الاستفسارات التي لا تجد لها إجابات صريحة من قبل الحكومة والرئاسي وباقي الأطراف المعنية بهذه الملف.
وأشارت إلى أن الوضع الحالي يؤكد أن أزمة الكهرباء باتت مفتعلة ورغبة بعض الأطراف والمتنفذين المستفيدين من تدهور هذه الخدمة لإبقاء الوضع على ما هو عليه. منوهة إلى أن الأزمة تحوّلت إلى ملف متاجرة راح ضحيته المواطن البسيط الذي يكتوي بنار الحرارة ولهيبها.
وكانت رسالة وجهها تيار التصحيح والبناء -جهة سياسية مدنية مستقلة في عدن- طالب النائب العام قاهر مصطفى بفتح التحقيق في المبالغ التي تصل إلى 3 ملايين دولار يومياً كمخصص للكهرباء، وكذا فتح تحقيق في الطريقة المتبعة من قبل حكومة عدن لشراء الوقود والتي تتم بالأمر المباشر دون المرور بلجنة المناقصات، ما يؤدي إلى العبث بالمال العام. كما طالب التيار بمنع أية محاولة من قبل الحكومة لخصخصة مؤسسة كهرباء عدن نظراً لما سيترتب على ذلك من أضرار وأعباء ترهق كاهل المواطنين، وتجنيب هذا الملف المماحكات والتوظيفات السياسية المضرة.
ويؤكد التيار أنَّ ملف الكهرباء يحتاج أولوية قصوى واهتماماً من قبل النيابة العامة، كونه مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بحياة الناس وبالاستثمار والتنمية التي أصبحت معطلة بسبب عدم وجود الكهرباء الكافية لتشغيل الآلات والمعدات والمؤسسات الإنتاجية والاقتصادية.
منذ تحريرها من سيطرة الميليشيات الحوثية، دخلت العاصمة عدن في ثقب أسود، كان عنوانه التدهور التدريجي والمستمر لخدمة الكهرباء، وهذا ما أكده تقرير صادر عن لجنة برلمانية متخصصة فتحت ملف التدهور الكبير للمنظومة. خلال العام 2022 بلغت الموازنة المخصصة للكهرباء لعام 2022 (دون موازنة المؤسسة ومنحة المشتقات النفطية) 569 مليار ريال، كأعلى موازنة دعم ترصد للكهرباء في ذات العام وبنسبة 85% من إجمالي دعم الوحدات الاقتصادية.
التقرير البرلماني كان واضحاً بأن معضلة الكهرباء في عدن ليست مشكلة الموارد، بل في إدارتها. وهذا أكده الدعم السخي الذي حظي به قطاع الطاقة على مدى السنوات الماضية سواء من الموارد المحلية أو الدعم الخارجي المقدم من الأشقاء في السعودية والإمارات.
اللجنة البرلمانية أكدت أن “خدمة الكهرباء” أصبحت “ثقباً أسود” يبتلع المال العام نتيجة لتفشي ظاهرة الفساد والاختلالات القائمة في هذا المجال. فبدلاً من معالجة أوضاع الكهرباء في عدن وما جاورها، تفاقمت المشكلة وأصبحت كارثة تحل على المواطنين كل فصل صيف.
وفي منتصف مايو الماضي؛ أكد رئيس الحكومة أحمد عوض بن مبارك، حقيقة الاتهامات التي وجهتها اللجنة البرلمانية أثناء فترة ترؤس رئيس الوزراء السابق معين عبدالملك. حيث قال بن مبارك في مقابلة مع قناة “اليمن” الحكومية إن قطاع الكهرباء في اليمن يستنزف 31% من إيرادات الدولة، موضحًا أن الحكومة صرفت العام الماضي مبالغ مالية ضخمة كانت تكفي لإنشاء محطات استراتيجية تغني عن الاستعانة بالمحطات المؤجرة.
وأضاف إن الدولة تصرف يوميًا مليونَي دولار على محطات الكهرباء في محافظة عدن وحدها. وأشار رئيس الوزراء إلى أن لجنة المناقصات الخاصة بوقود الكهرباء كانت تشتري طن الوقود الواحد بـ1200 دولار بالأمر المباشر، وحاليًا يُشترى بأقل من 700 دولار عبر المناقصات.
وقدّم رئيس الوزراء اليمني أحمد عوض بن مبارك اعتذارًا للمواطنين عن انقطاع الكهرباء خاصة في المناطق التي ترتفع بها درجات الحرارة، وقال: “أنا أعتذر للشعب، وأعرف معنى أن تنقطع الكهرباء طول اليوم”.
وكشف رئيس الوزراء اليمني إنفاق الحكومة تريليونًا و10 مليارات ريال على الكهرباء (4 مليارات دولار) خلال العام الماضي 2023 فقط، منها 775 مليارًا (3.10 مليار دولار) لوقود المحطات.
في الأخير، ينتظر المواطن في عدن سواء من “الرئاسي” أو “الحكومة” حلولا جذرية جادة من أجل إيقاف التدهور واستمرار إيصال التيار الكهربائي إلى منازلهم، ورغم أن هذا الأمر بعيد المنال حالياً في ظل ضعف إنتاج الطاقة والنقص الحاد في الوقود.