منذ دخول خدمات الكهرباء والمياه والصرف الصحي إلى عدن وبعض مدن الجنوب قبل نحو قرن من الزمان، لم تعرف هذه الخدمات انقطاعاً ولا تدهوراً مثلما وصلت إليه اليوم. ربما لم تكن هذه الخدمات في زمن الاستعمار البريطاني عند المستوى الذي يلبي تطلعات سكان الجنوب، لكنها كانت في حالة تصاعد واتساع. وبعد الاستقلال الوطني وقيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية مباشرةً شهدت هذه الخدمات بجانب الخدمات الطبية والتعليمية وغيرها كحق العمل والضمان الاجتماعي والتأمين الصحي وبناء منظومة القضاء ونشر مراكز الشرطة والأمن في معظم مدن ومديريات الجمهورية، أقول شهدت هذه الخدمات توسعاً غطى كل المناطق الحضرية وكاد أن يغطي معها المناطق الريفية التي انتقلت تدريجياً إلى مناطق حضرية أو شبه حضرية بصورة أو بأخرى، ولم يتوقف هذا التوسع إلا مع مايو 1990م، أما بعد 7 يوليو 1994م فقد بدأ العد التنازلي لكل هذه المعالم والمؤشرات التي تعبر في ما تعبر عن وجود دولة، حتى بلغ هذا التراجع مرحلة هي أقرب إلى الصفر في زمن يدير الدولة فيه أشكال كمعين عبد الملك وجماعته. لم يعش المواطن الجنوبي هواناً وفقراً وحاجةً وتجويعاً بالمعنى الحرفي للكلمة وانخفاضاً مريعاً في كل مقومات وشروط الحياة كما يعيش هذه الأيام، بينما قادة (الدولة) منشغلون بالتنقل بين العواصم والمنتجعات وفنادق الخمسة والسبعة نجوم، لا يأبهون لكل مظاهر البؤس والعناء والشقاء والانهيار في حياة الناس، ولسنا بحاجة إلى السؤال: لماذا لا يأبه هؤلاء القادة (المفترضون) لحالة مواطنيهم (المفترضين) فالسبب واضح، وهو أن هؤلاء ليسوا مواطنيهم ولا من بني جلدتهم ولا تربطهم بهم أية صلة سوى إنهم منحوهم الأرض التي يقيمون عليها حكمهم والثروات التي يعبثون بها والموارد التي يتصرفون بها، والشعب الذي يتحكمون بمصير ابنائه ويتكلمون باسمه زوراً وبهتاناً، معتقدين أن هؤلاء فعلاً مسؤولون. يكمن جذر معاناة الجنوبيين في أن حكامهم اليوم هم تلاميذ وورثة أو بقايا أولائك الذين دخلوا الجنوب غزاةً في العام 1994م وظلوا يعاملون الجنوب والجنوبيين كطرف معادي تنبغي معاقبته وتأديبه وتنفيذآ لهذا النهج فققد قتلوا الآلاف ونكلوا بأضعافهم من أبنائه، وها هم اليوم يواصلون ما بدأوه آنذاك ولكن بوسائل قتل أخرى غير الدبابة والمدفعية وقصف الطيران وغيرها من تلك الأدوات التي استخدموها أثناء وبعد حرب 1994م. الشعب الجنوبي الذي قدم عشرات الآلاف من الشهداء خلال فترة ثورته السلمية ومقاومته المسلحة وأضعافهم من الجرحى والمعوقين، لم يفعل كل هذا كي ينتقل من مرحلة القمع التعسفي البوليسي باستخدام الرصاص الحي، إلى مرحلة القمع الخدماتي وسياسات التجويع الكلي لأبنائه وبناته، وإذا ما اعتقد منفذو هذه السياسات الإجرامية أنهم سينجحون في إجبار هذا الشعب على رفع الرأية البيضاء فإنهم واهمون، وسياسة مليكهم القديم القائمة على فلسفة “جَوِّعْ كلبك يتبعك” لا تنطبق على الشعب الجنوبي، لأن تاريخه يقول إنه لم يكن قط تابعاً لأحد وأنه يقاوم الطغيان والاستبداد بنوعيهما (الخشن والناعم) بإرادة الحرية والكرامة والتحدي وركوب المخاطر، ولم يذعن قط لسياسات الألعاب السحرية والخدع البصرية التي يتبعها حكامه الهاربون من قراهم وديارهم وأهلهم. فلا تطمئنوا لغضب هذا الشعب، لأنه عندما ينفجر لا يحدُّه حادٌّ ولا يصدُّه صادٌ، وتذكروا قول الشاعر العظيم عبد الله البردوني: بين الجنوب وبين سارق أرضهِ يومٌ تؤرِّخه المٍدى وتخلِّدُ يا ويل شرذمةِ المظالمِ عند ما تطوى ستائرها ويفضحها الغدُ